من رجالات التاريخ العظام

هَنّيبال

تمهيد

   "هنّيبال" كلمة مركّبة، وهي تعني باللّغات السامية القديمة "عبد الله أو عبد الإله"؛ ومن بين هذه اللّغات المهجور معظمها الآن، اللّغة الفينيقيّة؛ والفينيقيّة أخت اللّغة العربيّة، مصدرها القسم الشرقيّ من شبه الجزيرة العربيّة. وهي أقرب ما تكون إلى لغة قريش، لغة المعلّقات والقرآن، لكنّها اندثرت في مصادرها الأولى كما اندثرت وتوارت سائر اللّهجات العربيّة في تلك الجزيرة بعد ظهور الإسلام وتبوّؤ لغة دينيّة المرتبة العالية، وانكساف ما عداها.

   والفينيقيّة هاجرت مع متكلّميها، الذين غادروا شرقي شبه الجزيرة ميمّمين الشمال حيث الماء والخصب والكلأ، ومنه، أي من بلاد ما بين النهرين، توجّهوا إلى الشطآن الواقعة في شرقيّ البحر المتوسّط، أي شواطىء بلاد الشام، وهم من عُرفوا بعد زمن طويل بالفينيقيّين الذين أكّد عروبتهم المؤرّخ "جرجي زيدان" وقال عنهم: إنّهم ينتمون إلى قبائل عربيّة غير قرشيّة طبعًا، ولغتهم كما ذكرها ذات مرّة في الثلاثينيّات، الأستاذ "بول كّراوّس"، العالم المتخصّص بها قائلًا: إنّها أخت اللّغة العربيّة الشقيقة وتصاريف أفعالها كتصاريف لغة الضاد تمامًا.

 "فهنيبال" إذًا من أصل فينيقيّ كما هو معروف، عربيّ النسب الأوّل، أجداده أسّسوا مستعمرات عديدة منها "قرطاجة الإفريقيّة القريبة من العاصمة التونسيّة" والمجاورة لها،  في مطلع القرن التاسع قبل المسيح واشتهروا في العالم القديم في التجارة والملاحة والمغامرات في البحار العالية، وبالأخصّ منهم الملاّح المعروف باسم "حنّون"!

   "وهنيبال" شذّ عن قاعدة هؤلاء الجدود، فاشتهر بالحروب والبطولات والفتوح، فلم يضاهه شهرة في هذا المجال سوى "الإسكندر ذي القرنين" الذي اكتسح نصف العالم القديم، بقارّاته الثلاث، حتّى بلغ بجيوشه حدود الصين في العقد الثالث من القرن الرابع قبل المسيح، إلّا أنّ أيًّا من القائدَين العظيمَين لم يعش حتّى يتربّع على عرش مملكته. هانئًا؛ فذو القرنين، فاتح المغرب والمشرق، والذي لم يصمد في وجهه قوّة تصدُّ غزواته، قهره داء الحمّى وقضى في مدينة بابل (بغداد) وهو في ربيع عمره؛ أمّا "هنيبال" وبعد أن أوشك على احتلال "روما" ودكّ عرشها والسيطرة على جنوبي أوروبّا، وشماليّ أفريقيا، تراجع وغدر به الجدّ ومات منتحرًا، وإليك نتفةٌ من حياته عرّبت بتصرّف من اللاتينيّة والفرنسيّة.

فتوّته وغزواته المنتصرة

   هو ابن "هَمِلْكَار"، لم يَفُق أباه في النباهة والنبوغ فحسب، بل يمكن القول إنّه بزَّ، ليس فقط كلّ القادة وقياصرة الرومان الأفذاذ، بل بزَّ جميع قادة شعوب الأرض قاطبة؛ إذ إنّه في كلّ المعارك التي خاض غمارها ضدّ الجيوش الرومانيّة، سواء كانت في بلاد الغول (غاليا = فرنسا) أم في إيطاليا، لم يندحر ولم يفشل في معركة ولم يعرف الهزيمة يومًا قطّ، في مغامراته الاوروبيّة؛ ولو أنّه استطاع أن يقهر حقد مواطنيه القرطاجيّين الذين دسّوا عليه وتآمروا حسدًا، والعياذ بالله من شرّ حاسد إذا حسد، لكان قهر الرومان وحوّل بلادهم إلى مستعمرة قرطاجيّة؛ فالقرطاجيّون الحُسَّد، المنزعجون من انتصاراته الباهرة وصيته الذي ذاع في الآفاق القريبة والبعيدة أرادوا ان يكسفوه فأحجموا عن إمداده بالمال والجند، وهو المتربّي تربية عسكريّة في المعسكرات وحقول التدريب، وحظي بعطف ومحبّة العسكر، ولم يكُ هاجسه وهمّه وكلّ تفكيره سوى الإعداد المتواصل للحرب، ضدّ الرومان وكسفهم وقهرهم وإزالة دولتهم؛ وهذا الحقد العنيف الكامن في صدره كمون النار في الحطب، ضدّ روما وقياصرتها حافظ عليه منذ نعومة أظفاره كتراثٍ مقدّسٍ أورثه إيّاه أبوه "هملكار".

القَسَم الحاقد

   وبعد أن شاخ وقاده سوء الجدّ إلى المنفى، ظلّ منشغلًا بإيجاد موارد تسهّل له سُبُل حروب جديدة، ضدّ الرومان أعدائه؛ وعندما التقى يومًا "أنطيوخُس الثالث" (223- 186 ق.م.). ملك السلوقيين1، الذي كان دومًا يحرّضه على أعدائه الدائمين، الرومان، قصّ عليه حكاية هذا الحقد الدفين المجسّد في قرارة نفسه، ضدّ روما وأباطرتها قال: ولمّا همّ أبي بالسفر إلى غزو أسبانيا بجيشه اللّجين كنت في الربيع التاسع من عمري (عاش ما بين 217 -183 ق.م.)؛ وذهب ووفى نذره بتقديم ضحيّة قربانًا للآلهة تيمّنًا بحظّ سعيد وتوفيق، كنت واقفًا بقربه أمام المذبح؛ وما إن أنجز مهمّته وقدّم الأضحية وانسحب الخدّامون وتواروا حتّى سألني وهو يداعبني: أترغب في مرافقتي إلى إسبانيا يا بنيّ؟

فأجبته للحال وبدون تردّد: لست فقط مغتبطًا شديد الاغتباط بذلك بل إنّني أودّه من صميم فؤادي.

   عندئذ أمسكني بيدي وقادني إلى المذبح وقرّبني إلى حيث أجسام الذبائح وقال: أقسم بأنّك سوف تكون دائمًا عدوًّا للرومان.

   ولم اتباطأ أن أقسمتُ وحافظت على قَسَمي، ولن أتراجع عنه ما حييتُ!

   وعندما توارتْ روح أخيه "اسدْرُوبالْ" عن هذه الدنيا عند مقتله عام 207 ق.م. كان قد بلغ من العمر خمسةً وعشرين ربيعًا، فتسلّم زمام السلطة العليا بدلًا منه؛ وما أن انقضت ثلاث سنوات على تسلّمه المسؤوليّة الكبرى، حتّى كان قد تغلّب على الشعوب الإسبانيّة الأيباريّة واستولى على بلادها، من نهر "الأبروُ"، النابع من جبال "كَنْتَبْرا" الملاصقة لسلسلة رواسي "البرانس"، وهناك جاءه رسُلٌ  رومانيّون، بلّغوه بأنّ سكاّن "ساغُنْطا"، التي تقع مدينتهم في هذا الاقليم من أسبانيا، حلفاء للرومان، فجاوبهم بناء على معاهدة معقودة بينه وبين هؤلاء الرومان، أنّهم على حقّ في حصار المدينة، وحاصرها بالفعل مدّة ثمانية أشهر واحتلّها عنوة العام 219 ق.م.؛ ولمّا سقطت "ساغنطا" أرسل الرومان إلى قرطاجة اثنين من شيوخهم يطالبون بتعويض عمّا لحق بها وترميمها؛ وبما أنّ القرطاجيّين أظهروا تردّدًا في قبول مبدأ التعويض، تقدّم أحد الشيخين من المفاوضين، طاويًا طرف عباءته الفضفاضة (تُوجَة)، وقال لهم:

إنّي عارضٌ عليكم في هذه الطيّة، الحرب والسلم، وعليكم أن تختاروا.

فجاوبوه قائلين: - "لك أنت خيارُ ما تشاء".

فأجابهم: - أنا، الحرب خياري.

وكان ذلك الموقف إيذانًا ببدء الحرب المعروفة "بالحرب اليونيقيّة الثانية" أي السنة 536 المعتمدة في تاريخ "روما".

الغزوة العظمى

   جنّد "هنيبال" وحشد خمسين ألفًا من الجنود المشاة، إفريقيين وإيبارييّن أسبان، وخمسة آلاف فارس وواحدًا وعشرين فيلًا، واجتاز بها جبال "البرانس"، الفاصلة بين أسبانيا وبلاد الغال (فرنسا اليوم). مقاتلًا الشعوب التي تصدّت له في تقدّمه، محاولةً إيقاف زحفه، ولكن بدون جدوى، إذ ما دنا حتّى دخل بلاد "غاليا"، وصدّ جيشًا مشكّلًا من البرابرة وفرقة من الفرسان الرومانيّين ودحره وشتّته، ما سهّل له اجتياز نهر "الرّون"؛ وأخيرًا وبعد جهود مضنية ومخاطر لا حدود لها، توغّل في داخل تلك المناطق الأوروبيّة، بجيوشه الجرّارة وفيلته التي لا تتحمّل صبّارة2 البرد. مرورًا بمعابر "الأل" وشعبها الضيّقة الوعرة، ذات المهاوي الخطرة، وواصل السير نهارًا وبعض السُرى ليلًا، حين يكون القمر بدرًا مشرقًا، حتّى بلغ "إيطاليا"، بعد تضحيات ومخاطر رهيبة، وقد فقد الكثير من الجند والعتاد ولم يبق له من عسكره سوى اثني عشر ألفًا من الإفريقييّن وثمانية آلاف من الأسبان الأيباريّين، وحوالى ستّة آلاف فارس، وقد نُهك رجاله وخيله من جرّاء التعب الشديد والمعاناة القاسية، حتّى أنّه أصيب هو نفسه بداء كابد بسببه آلامًا مبرّحة عنيفة أفقدته إحدى عينيه؛ وهذه الخسائر الجسيمة والمعاناة والأهوال لم يخفّف وطأتها ووقعها سوى وصوله إلى بقاع خصبة غنيّة في شمال إيطاليا، تقع وراء جبال الألب الشاهقة، وتجاوب الغاليين الذين كانوا قد احتلّوا تلك السهول، والذين ساعدوه على تحمّل ما كابده فأمدّوه بالمؤن وسائر وسائل العيش والكساء وآلات الحرب المعروفة آنذاك؟ وبعد أن تغلّب على القنصل3 "سِيْبيُون" في موقعة "تِسّانْ" و "تَرابْيا" العام 218 ق.م. طوّق بجنده وفرسانه القنصل الآخر "فلامْينُيوس" وظهر عليه وقهره وشتّت شمل عسكره عند بحيرة "ترْسِيمَان"، السنة 217 ق.م. ثمّ عرّج على "أيبوليا"4 حيث التقى في مدينة "كانّ" العام 216 ق.م، جيشي القنصلين الآخرين "بول اميل" و "فرّونْ" فكرّ عليهما بأبطاله المتبقّين ومزّقهما شرّ ممزّق وشتّتهما واستولى على "كابو" سنة 215 ق.م التي اتّخذ منها مركزًا لأركانه وأمضى فيها شتاءً قارسًا، ولكنّه ممتع لجنده؛ وفقد الرومان تحت رحاها (وهي القريبة من مدينة نابّلي اليوم) حوالى سبعين ألف رجل، وقتل فيها أحد القنصلين "بول اميل"، وكانت حربًا تاريخيّة لم تعرف روما كارثة تشابهها في كلّ المعارك التي خاضتها سابقًا، لا في الغرب ولا في الشرق.

النهاية المأساويّة

   ولكن ليس كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه ولا تجري الريح دومًا بما تشتهي السفن، إذ إنّه، بعد كلّ هذه الانتصارات الباهرة التي دلّت على عبقريّة نادرة المثال في فنون الحرب، لم يواتِ الحظّ هذا القائد العظيم المقدام حتّى النهاية، ولم ينله ما تشتهي نفسه الطموح؛ وبدأ طالع نجمه يخبو ثمّ ينطفىء عندما انكسر أخوه "أَسدروبال" في موقعة طاحنة عند نهر" ميتور" العام 207 ق.م وتحطّمت آماله في تحقيق نصر نهائيّ على صخرة روما الصلبة، ومن ثمّ السيطرة على الامبراطوريّة الرومانيّة المهيمنة على قسم كبير من قارّات العالم القديم؛ واضطرّ إلى الانكفاء والتقهقر والعودة إلى أفريقيا، حيث انكسر وللمرّة الاولى في تاريخ معاركه على يد قائد رومانيّ يدعى "سيبْيون" في معركة "زاما"، سنة 202 ق.م؛ وحتّى لا يقع أسيرًا في قبضة أعدائه الالدّاء لجأ إلى الملك السلوقيّ "انطيوخُس الثالث" عدوّ أعدائه، وفي نيّته معاودة الكرّة ومقاتلتهم إذا ما واتاه طالع السعد ثانية، ولكنّ القدر خانه وطالع النحس واكبه، فانتقل إلى بلاط ملك آخر هو "بروسياس" ملك "بيثينيا"5 الذي غدر به ونوى تسليمه إلى روما، فآثر ترك هذه الدنيا الغرّارة، ولجأ إلى قتل نفسه الكبيرة، فانتحر هربًا من أسر مذلّ؛ وهكذا لم يوصله نبوغه العسكريّ إلى ما ابتغى، وكان مثله مثل الاسكندر المكدوني الكبير ذي القرنين قبله، الذي وافاه الأجل المحتوم وهو في ربيع العمر في مدينة بابل، ومثل "يوليوس قيصر" الذي قُتل على يد أقرب المقرّبين إليه، وكذلك نابليون الذي غزا أوروبا وطيّرت شهرته الآفاق في مطلع القرن التاسع عشر، واحتلّ قسمها الأكبر، واندحر أخيرًا وقضى منفيًّا ذليلًا في جزيرة "القدّيسة هيلانة" النائية القابعة في وسط المحيط الهنديّ.

                                             يوسف س. نويهض  

 

-  انطاكية  عاصمة السلوقيين، وقد سلخها الأتراك عن سوريا في العام 1938 في عهد الانتداب الفرنسيّ عليها.1

 - صبّارة البرد: شدّته.2

 - القنصل  في روما القديمة تعني حاكمًا رئيسيًّا عسكريًّا ومدنيًّا.3

 - أيبوليا: كانت قديمًا تابعة إيطاليّة واليوم فرنسيّة.4

 - بيثينيا: مملكة صغيرة تقع في الشمال الغربيّ من آسيا الصغرى، تركيا اليوم.5